مختارات الحكيم من تفسير القرطبي- رؤية أدبية في الفقه الإسلامي.

المؤلف: د. عصام تليمة11.11.2025
مختارات الحكيم من تفسير القرطبي- رؤية أدبية في الفقه الإسلامي.

اشتهر الأديب العظيم توفيق الحكيم بإبداعاته الأدبية الرفيعة، والروايات التي سطر فيها إنجازات عظيمة، ليصبح من بين أشهر كتابها في الوطن العربي، ولم تخلُ مؤلفاته من زوايا سياسية وفكرية ثرية، تتراوح بين الجدية والفكاهة، وبين النقد البناء للأوضاع السياسية والفكرية التي عايشها.

وقد كان لمعظم أدباء مصر البارزين، نظرة فاحصة وتأمل عميق في القرآن الكريم وتفسيره، وقد امتلكوا رؤى خاصة وتأملات فريدة، وكان ميدان كتابتهم المحبب: السيرة النبوية الشريفة، وذلك لما تحتويه من قصص مؤثرة، مما يتيح لهم إطلاق العنان لقلمهم الخصب، وخيالهم الأدبي الجامح، في كيفية تقديم أحداث السيرة النبوية بطريقة مبتكرة، وإن لم يخلُ إنتاج الكثير منهم من الكتابة في القرآن الكريم، وتدبرهم في قضايا قرآنية متنوعة، كما نرى ذلك جليًا عند عباس العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم من الأدباء اللامعين.

يرى الحكيم أن عقوبات الإسلام البدنية، ولا سيما عقوبة الإعدام، ينبغي أن تبقى ولا تلغى، فهي عقوبة عادلة تتعلق بحق المجتمع في الأمن والاستقرار، ويرى الحكيم، بوصفه رجل قانون، أن عقوبة الحبس ليست عقوبة ناجعة ولا مفيدة.

وقد قام توفيق الحكيم بانتقاء مختارات من تفسير الإمام القرطبي، وأطلق عليها اسم: (مختار تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن)، وتفسيره ليس تفسيرًا تقليديًا، ولا هو موجه لعموم القراء، بل هو كتاب متخصص للغاية، إذ أن مؤلفه مفسر وفقيه متبحر، وعالم لغوي من أئمة السلف، وإقدام الحكيم على هذه الخطوة الجريئة، يعكس رغبة عارمة لديه، وإلمام واسع بتفسير القرطبي، فمن يقوم بانتقاء مقتطفات من تفسير معين، لا ريب أنه قد قرأه بأكمله، وأمعن النظر مليًا فيما يختار ويستبعد.

دوافع الحكيم لمختارات القرطبي

كان للحكيم دافعان أساسيان وراء هذا العمل الجليل، وقد ذكرهما بنفسه؛ أولهما: أنه لاحظ أن الإمام الرازي، صاحب كتاب (مختار الصحاح)، قد قام باختصار عمل ضخم جدًا، في مجلد واحد، يسهل على الناس الاطلاع عليه بيسر وسهولة، مع اختصار مفيد ومتقن، ومن أراد التوسع والتبحر، فبإمكانه الرجوع إلى المصادر الأصلية المطولة، فقد قام الرازي باختصار عمل مطول للإمام الجوهري، وقد تمنى الحكيم أن يقتفي أثره في ذلك، فيختصر تفسير القرطبي اختصارًا يعود بالنفع على عامة الناس، ويفيد الخاصة من العلماء والباحثين، ويقرب الكتاب إلى قلوب القراء، لما يحتويه من فوائد جليلة، لا غنى عنها لطالب العلم، ولا لعاشق التفسير وعلومه.

ودافعه الثاني: أنه شهد إقبالًا متزايدًا على قراءة الكتب الدينية، وقد نشر كتابه سنة 1977م، وهي الفترة التي عرفت باسم فترة الصحوة الإسلامية، وازدهار الكتب الإسلامية، التي تصدرت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا، وشهدت إقبالًا منقطع النظير، وفقًا لإحصائيات معارض الكتب في مصر والعالم العربي والإسلامي، فرأى الحكيم أن يقدم كتابًا يساهم في توعية القراء بأحكام كتاب الله تعالى.

لماذا اختار الحكيم تفسير القرطبي؟

أوضح الحكيم السبب الكامن وراء اختياره لتفسير القرطبي تحديدًا من بين سائر التفاسير الأخرى، وذلك لما وجده فيه من تجنب للخرافات والأباطيل، التي لم تسلم منها بعض التفاسير الأخرى، والحكيم مصيب في ذلك، فالقرطبي يعد من أكثر التفاسير بعدًا عن الإسرائيليات، وهو يركز اهتمامه على قضايا أخرى يعتبرها جوهرية، ولا يميل إلى الخوض في الغرائب التي ظهرت في تفاسير سبقت عصره أو تلته.

إلا أن هناك سببًا ثالثًا لم يذكره الحكيم، يكمن وراء اختياره لتفسير القرطبي، وهو سبب يعود إلى ميول الحكيم الأدبية والعلمية الرفيعة، فهو يتلاقى مع القرطبي في المسلك الفكري في جوانب لا يدركها إلا من يمعن النظر في المسيرة العلمية والفكرية لكل من القرطبي والحكيم، فالقرطبي عالم لغوي وفقيه متمكن، وعالم قراءات بارع، وهذا الاتجاه يتقاطع مع ميول توفيق الحكيم الأدبية واللغوية، التي تفوق فيها الحكيم في جميع كتاباته، فهو حينما يكتب في السياسة، يكتب بلغة أدبية آسرة، وليس فقط في الروايات الأدبية والقصص الممتعة.

كما أن القرطبي اهتم بالفقه والأحكام الشرعية، ولذا جاء عنوان كتابه معبرًا: الجامع لأحكام القرآن، وهذا مسلك علمي قويم، يلتقي مع مسلك الحكيم، الذي درس الحقوق، وعمل في بداية حياته في النيابة والتحقيق في الجرائم، ولذا كانت من باكورة رواياته: "يوميات نائب في الأرياف"، التي تتناول الريف المصري وحياته ونمطه الاجتماعي، والجريمة المنتشرة فيه، ولذا نجد بصمات الحكيم القانونية جلية وواضحة في كتابه: (مختار تفسير القرطبي).

رأي الحكيم في عقوبات الإسلام البدنية

ولأن الاختيارات التي انتقاها الحكيم، لم يعلق عليها لإبداء رأيه الشخصي، فقد ضمن مقدمته التي كتبها، موقفه الفقهي والتشريعي من القضايا التي تناولها التفسير، وهي قضية تستحق التنويه بشأن الحكيم؛ لأنها تجسد موقفًا لفقيه قانوني بالمعنى القانوني المعاصر، وذلك في رؤيته للعقوبات في الإسلام، وخاصة العقوبات التي تتعلق بالعقوبات البدنية، والتي يتم فيها جلد المذنب أو المجرم.

فيرى الحكيم أن عقوبات الإسلام البدنية، ولا سيما عقوبة الإعدام، يجب أن تبقى ولا تلغى، فهي عقوبة عادلة تصون حق المجتمع في الأمن والسلامة، ولا يرى الحكيم، بوصفه رجل قانون، أن عقوبة الحبس عقوبة ملائمة أو نافعة، بل يرى أن عقوبة الجلد التي نص عليها الإسلام والشريعة الإسلامية، هي الأجدر والأكثر نفعًا؛ لأنها عقوبة فورية، يعاقب بها المجرم في التو واللحظة، وينتهي الأمر، ويعود لممارسة حياته الطبيعية والإسهام في الإنتاج، بينما الحبس يعطل طاقات المجتمع بحبس عدد من أفراده داخل السجون.

وما انتهى إليه الحكيم بشأن العقوبات البدنية في الإسلام، هو عين ما دعا إليه فقيه قانوني آخر، وهو المستشار علي علي منصور، الذي كان شخصية قانونية مرموقة في مصر والعالم العربي، وقد استدعاه الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، لوضع قانون للعقوبات مستوحى من الشريعة الإسلامية، وقد كتب منصور مقالًا- يتبنى نفس رأي توفيق الحكيم- في مجلة الأزهر الغراء.

في الجمع بين الدين والدنيا

أشار الحكيم في مقدمته، التي ذكر فيها خلاصة ما استنبطه من مختارات تفسير القرطبي، إلى أن القرآن الكريم في خطابه وتعاليمه السامية، يوفق بين الدين والدنيا، لأنه آخر رسالات السماء إلى الأرض، فكان جامعًا لكل ما سبقه من الرسالات، فيما صح منها، ومصححًا لما شابها من تحريف وتزييف، فلم يرتضِ ما قامت عليه الفكرة المادية المحضة في الديانة اليهودية في صورتها المحرفة، ولا ما قامت عليه فكرة الروحانية والعزلة التامة كما في الديانة المسيحية في بعض جوانبها، فجاء القرآن الكريم في آياته ونصوصه الباهرة يدعو إلى إصلاح الدنيا، وإقامة الدين القويم، عن طريق أوامره بالعبادة الخالصة، من صلاة وخشوع، وصيام وورع، وزكاة وإنفاق، وحج وتلبية للنداء، وتكاليف وأوامر أخرى سامية.

منهج الحكيم في المختار من التفسير

لم تكن مختارات الحكيم لتفسير القرطبي، اختصارًا مخلًا بالتفسير، بل كانت انتقاءات دقيقة لمواضع معينة، لتفسير آيات مختارة من القرآن الكريم، ولم تستوعب كل سور القرآن في تفسيره، بل اختار عددًا محددًا من السور، ومن خلال كل سورة، ينتقي آيات معينة، تتناول موضوعات يرى الحكيم من خلالها رؤية خاصة لموضوعات قرآنية جوهرية، تعالج قضايا ذات صلة بالعقيدة والإيمان، والعبادة والتقوى، والسلوك القويم، والعلاقات الدولية السليمة.

فكان يورد كلام القرطبي لآيات مختارة كاملًا، دون تغيير أو تعديل، بكل ما ذكره القرطبي في تفسير الآية، ولم يزد عليه سوى أنه أضاف عنوانًا مناسبًا وعصريًا، يعكس ما فهمه الحكيم من التفسير، كدلالة على أن عناوين الحكيم تكشف عن منهجه في اختيار المقاطع من التفسير، وذلك مما أخذ عليه، أنه لم يوضح منهجًا محددًا للاختيار، وهو ما انتقده عليه الدكتور إبراهيم عوض، وكان محقًا في ذلك، وإن بدت خطة الحكيم في الاختيار واضحة من خلال الأفكار التي طرحها الحكيم في مقدمته، ومن خلال العناوين التي وضعها للفقرات.

لا يخلو هذا العمل من فوائد جمة تنسجم مع الهدف الذي سعى إليه الحكيم، ولم يخلُ أيضًا من بعض النقائص، حيث لم يضطلع قلمه بأي تهذيب أو توضيح أو شرح، سوى وضع عناوين للفقرات، ولكنه جهد محمود من أديب بقامة توفيق الحكيم، وعمله هذا يعكس قيمة التفسير وأهميته في ثقافة الأديب والمفكر، ويقرب كتابًا قيمًا كتفسير القرطبي إلى شريحة من القراء قد يستهويهم قراءة كتاب يحمل اسم الحكيم، قد لا يكونون بالضرورة من مرتادي الثقافة الإسلامية، بل هم من محبي الحكيم وعشاق أدبه، وهي خطوة جبارة تحسب لصالح التراث الإسلامي العريق، ولا سيما أنها لم تتكرر من أدباء آخرين في حجم ومكانة الحكيم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة